الأحد، 23 فبراير 2014

جنية الترعة


هل ندهت جدّك (الندّاهة)؟ هل قادته (الجنية ذات العينين المشقوقتين بالطول) إلى دهاليز تحت الأرض؟ هل أخبرك عن (الحمار الذي يعلو ويهبط) إذا ركبه؟ هل خاطبت جدّتك (القطة السوداء)؟ هل قصّت لك حكاية (الصيّاد والقراميط) قبل النوم؟

لو أن ما بين الأقواس مألوفًا لك، فأنت مثلي، وربما في عمري: هل أنت من مواليد الثمانينات؟ هل أرقك تصوّر الشيطان... أرسمت آلاف الصور التي تختلف تمامًا وتشترك جميعًا في ’أرجل العنزة‘؟

أنت تعرف ما أعرف وتدفنه في مكان سحيق من ذكريات طفولتك.. الآن أخبرك، جدي وجدك كانوا يتسلوا بنا يا صديق.. كانوا يخدعوننا...

فكل ما رووا...

لا يوازي ذرّة من الحقيقة!

في القرى، لم تكن النساء تستحم بالماء الدافيء في البانيو.. كن يستحممن في الترعة.. بعد أعمال الحقل والأعمال المنزلية. كن يأخذن حاجياتهن: صحون، أوان، ملابس متسخة، ويذهبن إلى الترعة.. ينظفنها، ثم يخلعن ملابسهن فيما عدا قطعة واحدة، وينزلن سويًا إلى الترعة..

في الحلكة، لا يخفن، لكن تكون هي الأمان لهن من المتلصصين، دعك من أنه لم يكن هناك متلصصون.

كانت (بهية) ـ التي قد تكون جدتك أو جدتي ـ أجمل صبايا البلد، كانت وحي الشعراء والأدباء، وقد استحقت كل حرف من اسمها..

لو أنها قصة رومانسية لقلت لك أن كل الرجال هاموا بها، ولو أنها قصة أطفال لقلت لك أن كل الورود منحتها جمالها.. لكن والحال هكذا، أقول: أن مصيرًا أسود ينتظرها.

غرفت (بهية) بيدها من الرمل على جانب الترعة، وصبّته على قطعة اللوف، ثم نحّت ملابسها ونزلت إلى الترعة.. استمتعت بملمس الماء المُنوِّم على جسدها.. قبل أن تصطدم ساقها بشيء، وتتبين هاتين العينين المحدقتين بها من تحت الماء!

أطلقت صرخة رعب هائلة.. التفت النساء حولها.. وحوطتها صديقتها (أمينة) بذراعيها.. قالت كلمات متهدجة عن شيء يحدّق بها من العمق.. تبرعت (أم أحمد) باستكشاف الأمر.. هي معروفة بموت قلبها وربما يعود هذا لعشرتها مع زوجها الحانوتي.. غطست (أم أحمد) وعادت بعد ثانية ممسكة برأس حمار ميت، لوحت به في وجه (بهية) وقالت لرفيقاتها:
- اضحكن يا نساء! الصبية الحلوة المتدللة تخاف من جثة حمار!

كانت (بهية) لاتزال ترتجف، وصدرها يعلو ويهبط.. لكنها حمدت الله أن جعله حمارًا لا أكثر.. قالت (أمينة):
- لا تقلقي! لا تقلقي!

ثم أخذت اللوف من يد (بهية) لتحممها به، وبدأت في تدليكها، كان ملمس الرمل خشنًا على جسد (بهية) اللين في ذاك الوقت الذي لم يكن الصابون أُخترع فيه بعد. تألمت (بهية) إثر الاحتكاك، وقالت لـ (أمينة):
- تعرفي يا (أمينة).. لكم كنت أتمنى لو أستطيع أن أتحمم بالحنّاء بدلاً من الرمل كما تفعل (ثريا).. لو أنني ابنة أثرياء مثلها!
- تستطيعين أن تصيري أغنى فتاة في البلد بإشارة من إصبعك.. كل الأثرياء يتمنون الزواج منك
- لكنهم كبار في السن.. أنا لا أريد أن أتزوج رجلاً في مقام أبي، أنا فقط أريد أن أتحمم بالحنّاء..
- إذا كان على الحنّاء فأمرها بسيط، لكن...

ثم التمعت عينا (أمينة) وهي تقول:
- أمتأكدة أنه لو أتيحت لكِ أمنية أخيرة تتمنين الحنّاء؟

اندهشت (بهية) لتساؤل (أمينة) لكنها لم تأخذه محمل الجد، قالت:
- نعم.. أتمنى أن أجرّب الحنّاء

هنا اختلجت شفاه (أمينة) في ربع ضحكة ما لبثت أن تلاشت ثم فتحت كفها عن عجينة من الحنّاء.. اتسعت عينا (بهية) وأمسكت كف (أمينة) لتخفي الحنّاء بسرعة، وقالت خافضة صوتها:
- ياللمصيبة.. أسرقتها من (ثريا)؟ لو علمت (ثريا) فلن....

قاطعتها (أمينة):
- لا تقلقي! لا تقلقي!

أفلتت (أمينة) يدها من يد (بهية)، ووضعت الحناء على اللوف، وبدأت تدلك جسد (بهية) التي لم تشعر بتحسن في الملمس: ظل خشنًا مؤلمًا، ذلك أن (أمينة) وضعت الحناء على اللوف المحتوية بالفعل على الرمل، وما زاد الأمر سوءًا تلك الحركة العنيفة التي اتبعتها (أمينة).. كانت تستجمع قواها لتحك جسد (بهية) بعنف، إلى حد أن بدا في اختلاجات وجهها عقدها العزم لفعل يحتاج القوة.. صرخت (بهية) ألمًا وتملصت:
- ما لكِ يا (أمينة)؟ لماذا تدلكينني هكذا؟ أنتِ تؤلمينني

لم تجب (أمينة)، ولو أجابت لما قالت سوى: "لا تقلقي!".. شعرت (بهية) أن (أمينة) تكبر قليلاً مع كل مرة تدلكها فيها.. لكنها طردت الأفكار من رأسها: هذه لاشك ألاعيب الظلال!

كانت (أمينة) تسحب (بهية) رويدًا للأبعد.. والآن، وقد صارت (أمينة) بحجم أضخم أضعاف عن الذي بدأت به ليلتها، وصارت (بهية) على بعد كاف من الرفيقات.. قررت (بهية) أنها في خطر.. وأصدرت صرختها التي كتمتها (أمينة) بيدها، وأمسكت بكتفها وأدارتها لتتمكن من تدليك ظهرها.

نظرت (بهية) بعينين متسعتين إلى نساء المجموعة.. كن يمرحن جيدًا، حتى (أمينة)، كانت واقفة تتبادل رش الماء مع النساء.. إذا كانت تلك (أمينة)، فمن تلك التي تدلك ظهرها الآن؟

نظرت إلى انعكاس صورتها في الماء على ضوء القمر: صبية حلوة يمسك بها من الخلف شيء مثل... مثل.... شيء لا تعرف له مثل.

صرخت (بهية) لكن قبضة الجنية على فمها منعت أي صوت، كانت لها من القوى أضعاف ما تبدو عليه، حتى وهي على هذه الحال من الضخامة.. كان الألم يمزق ظهر (بهية)، وللحظة شعرت أن جلدها سينسلخ، وذلك قبل أن ينسلخ بالفعل!

كانت الجنيّة الآن قد تحررت تمامًا من ثوب (أمينة)، وقد ظهر لها أعوان يساعدونها في سلخ (بهية) التي لم تتصور قط أن هذا ممكنًا.. وقد لحظت الجنية كل هذا الذعر على وجهها فقالت:
- لا تقلقي! لا تقلقي!

أمسكت الجنية أطراف جلد ذراع (بهية) من الكتف، وجذبتها للأسفل.. حاولت (بهية) التملص والصراخ، لكن الجنية قالت:
- رجاءً لتبقي فتاة مطيعة حتى أحصل على جلدك كقطعة واحدة: قطعة واحدة للظهر، قطعة واحدة للساق، للذراع، للوجه.. حتى لا أضطر للترقيع.



ثم اقتلعت جلد ذراع (بهية) التي غرقت تمامًا في دمائها.. لا شك أنه من الرحمة أن توقفت (بهية) في لحظة ما عن الشعور بالألم، وبأي شيء آخر.. أما الجنية فقد قسمت العمل بين أعوانها قسمين: قسم يقتلع جلد (بهية)، وقسم يركب لها هذا الجلد ويحيكه على جسدها.. وحين انتهت، ألقت جثة (بهية) مشوهة المعالم في قاع الترعة، ووقفت تنظر لجسدها في انبهار ثم تنظر لأعوانها وتقول:
- كيف ترونني الآن؟
- نرى (بهية)
- وكيف ترون انعكاسي في الماء؟
- انعكاس (بهية)
- وكيف سيكون انعكاسي في المرآة؟
- انعكاس (بهية)
- ولهذه الأسباب جميعًا لم أكتفِ بالتشكل في هيئة (بهية) كما تشكلت في هيئة (أمينة)، وأصررت على ارتداء جلدها ذاته؛ فالآن أنا أجمل الإنس والجان في هذه البلاد.

ثم ركضت إلى النساء اللاتي كن يستعددن للرحيل، وما إن رأوها حتى ملن على بعضهن يتهامسن:
- كلنا استحممنا فلماذا تبدو (بهية) أكثر بهاءً من الجميع؟
- أكنا نتحمم بالرمل وهي تتحمم بالحناء؟
- أكنا نحمم بعضنا، وتحممها الجنيات؟

وقالت (أمينة):
- أين كنتِ يا (بهية)؟ لقد انشغلت عليكِ

قالت (بهية):
- لا تقلقي! لا تقلقي!

وجه في الزحام



عشرون عاما....

كم تائق لحضن زوجتي التي تبيت بحضن آخر، كم أحن لابتسامة ابني الميّت... لكن من أين لي بدقيقة خارج أسواري؟

القاعدة أنه إذا عكّر أحد عُزلتي المقدسة، فأنا هالك للأبد.. وكم أحتاج فعلاً للفناء!


طوال عمري أكره الزحام، الآن فقط أعرف كم كان نعمة.

في الزحام يتحول الناس إلى وجوه من بعيد.. وجوه عابسة، متذمرة، سائمة، أو حتى شاخصة.... وجه واحد يحمل هذا التعبير الرهيب: أنت لي.

في طفولتي كنت في مدرسة متواضعة، لم يكن هناك أي تنظيم.. بمجرد أن يدق جرس الانصراف، تتجمع حشود التلاميذ على السلالم، يد في بطنك ويد في ظهرك، أنفاس كريهة على عنقك، ورائحة كريهة في أنفك.. أطفال أشدّاء يدفعونك لأسفل.. كنت أشعر بالاختناق، أكره هذا التلاصق الذي يكتم أنفاسي... وأتوق إلى اللحظة التي سأتحرر فيها.

’ناجي‘ صديقي كانت له طريقة مختلفة، كان بقول لي: ضع نفسك في حالة سلام، صفِّ فكرك، دع الجموع تحركك دون بذل طاقة، يدفعونك خطوة فخطوة للأمام حتى يوصلونك إلى البر بسلام.. ثم يغمض عينيه، يبسط يديه، ويبتسم..

أنظر من نافذتي:

ذلك التراص الذي تطالعك به الحشود.. صفوف وصفوف لا ترى منها إلاّ الصف الأول فقط، والباقي وجوه، لا تنقص اللوحة إلا توقيع فنان ما...

وأنت إن قُدّر لك أن تكون بينهم فيسيسقطونك تحت أقدامهم ويدهسونك.. كما أسقطوا ’ناجي‘ صديقي...

يوم الزلزال، أصيب التلاميذ بهيستيريا، وأنا أُصبت بلوثة ما، الكل يتدافع على السلم، ويكادون ينسونني، أدفع نفسي بينهم، أصرخ: أنزلوني، أخرجوني من هنا، سيتهدّم فوقي، لكن لا أحد يأبه. وحده ’ناجي‘ صديقي يمد إليّ يده، فأتشبث بها. وفي النهاية حين سكنت الأرض، بحثت عن ’ناجي‘ صديقي فكان مُلقًا جثّة هامدة.

أبعد هذا أحب الزحام؟

أنظر إلى الأفق: ها هو الوجه الذي صار مألوفًا: لازالت نظرة الوعيد بعينيه تتأجج، لم تخمدها الأعوام، تُرى.. أي أهوال سيفعلها بي الآن بعدما أتيحت له الفرصة..

طول الزمان جعلني أتوقف عن الأسئلة.. من هذا الرجل... لماذا يتوعدني.... لماذا دمّر حياتي... كلها أسئلة اعتصرتني أعوامًا حتى جففت.

كنتُ مهندسًا لامعًا، وصاحب أكبر شركة محمول بالبلد.. في يوم قمّتي حيث مُنْحَنَى حياتي في أوْجِه، ظهر هذا الرجل.. كنت أحتفل مع أفراد شركتي بنجاحنا الباهر.. وكان هناك مؤتمرًا صحفيًا على هامش الحفل:

* كيف يمكنكم إدّعاء أنكم ’أكبر‘ شركة محمول، بينما ليس هناك شركة محمول أخرى يجري عليها التفضيل؟
- نحن لا نحتكر شيئًا، ولا نمنع شيئًا عن أحد؛ السوق مفتوحة، والمنافسة ممكنة، غير أننا لم نجد من ينافسنا.

* كانت تنافسكم شركة أخرى، فلماذا انسحبَت من السوق؟
- برغم أن هذا السؤال الأولى توجيهه لها، لكني أجيبك ببساطة.. في الفترة الأخيرة كشف الإعلام فضائح هذه الشركة، والسرقات التي كانت تقوم بها على أرصدة عملائها، والتنصّت على مكالماتهم، هكذا فقدت مصداقيتها وعزف عنها المستهلك. ولم يجد صاحبها بدًا من إعلان إفلاسه ثم الانتحار.

بنهاية الأسئلة تنفّستُ الصعداء، أدرت وجهي إلى الحضور ففاجأني ذلك الوجه.. تُرى من هو.... ولماذا ينظر إليّ هذه النظرة الرهيبة... مِلتُ على مُساعدي:

من هذا الرجل الذي ينظر إليّ بِغِلّ؟
أين؟
في الصف الأخير.
لكن الصف الأخير فارغ.
.
.
.
فارغ!

كانت هذه المرّة الأولى التي أراه فيها، لكنها أبدًا لم تكن الأخيرة..... بعدها صرتُ أراه في كل مجموعة، كل مكان، من نافذتي، في الشارع، العمل.. انقطعت عن العمل، وأخذت إجازة مفتوحة لتهدئة أعصابي..

جلستُ في بيتي مع زوجتي وابني نشاهد التليفزيون، جاءت الخادمة تحمل فنجان قهوة، نظرت إليها نظرة عابرة أن ضعيه، لكن ما لبثتُ أن أعدت النظر إليها برعب: كان ذاك الرجل خلف ظهرها ممسكًا بالصينية فوق يدها، ويميل يضعها أمامي إذ تميل. صرختُ في جزع، قذفتُ بالصينية في وجهها، ودفعتها بعيدًا..

صرختُ فيه: من أنت، كيف دخلت هنا، وماذا تريد.. رسم لي بأصابعه: أربعة، واختفى.

هراء.. هراء.. ظللت أصرخ، وبداخلي قدر من الرعب لا يُوازَى.. هذا الرجل ليس بشريًا...

وطبعًا اعتبرني زوجتي وابني مجنونًا... كنتُ في حالة مزرية ولم أكن لأهتم عمّا يقولون.

في اليوم التالي كنت أقبّل ابني في فراشه، وزوجتي من خلفي تقول:

هو بخير، المهم أن تكون أنت كذلك..

شعرت بتوق غامر لتلك السيدة التي احتوتني في حالتي الغريبة هذه، التفت إليها لأحتضنها، فإذا بهذا الرجل يحتضنها من الخلف، بسطَتْ يديها، صرخت، صرخت.... دفعتها عني: هذا الرجل! هذا الرجل!

جريت إلى غرفة المكتب، حشوتُ المسدس رصاصًا، وخرجت أفرغه في صدره.... صنع الرصاص ممرات في صدره مكنتني من رؤية ما وراءه... ابتسم ملء فمه، ورسم لي بأصابعه: ثلاثة، واختفى.

أغلقت على نفسي غرفة المكتب.... بكيت.. أربعة، ثلاثة... ما معنى هذا... هذا يعني أنني في عدٍّ تنازلي.. هذا الرجل لا يظهر إلا في مجموعة، أول ظهور كان يوم الحفل والحشد الكبير، ثم بدأ يظهر في مجموعات أصغر تدريجيًا، أمس ظهر في مجموعة من أربع أفراد: أنا وزوجتي وابني والخادمة. واليوم ظهر في مجموعة من ثلاثة، هذا يعني أنه غدًا سيظهر في مجموعة من اثنين، وبعد غد يظهر لي وحدي.

لكن لا، لا يمكن أن أتيح له هذه الفرصة أبدًا، سأفسد مخططه.

عليّ إعداد العدّة جيدًا... عليّ أن أبقى وحدي حتى أموت، أو بمعنى آخر ’حتّى‘ أعيش.

خرجت من المكتب، أفهمت زوجتي أنني أمر بظروف بشعة، وأني لو رأيتها غدًا فسأموت بعد غد، أخبرتها أنها في حلٍ إن أرادت، كانت تولول وتردد أنني جننت.

جهزت حقيبة ملابسي، كل أوراقي، كمبيوتري المحمول، وألبوم صوري، سحبت كل المبالغ الخرافية التي كانت بالبنك، استأجرت فيللا منعزلة، ومررت على النجّار أخذته إليها، طلبت منه أن يصنع لي كوّة من سنتيمترات أسفل الباب.

وها أنا، أطلب أشيائي بالهاتف، أستلمها من الكوّة، أدفع فواتيري من تحت عقب الباب.

عملي، صحتي، علاقتي بأسرتي.. كلها أشياء تدمّرت.. إذا قُدّر لنا أن نفترق فلا يجب أن أؤرقهم باقي حياتهم... لينسوني ويتابعوا...

لكني مع هذا لمّا كان يشتد عليّ الحنين أتصل على هاتف المنزل.. أسمع "آلو" المُحبّبة من ابني أو زوجتي، وأغلق الخط.

حتى يوم اتصلت ولم يُجبني أحد. أين ذهبوا.. أهم بالخارج، مسافرون... مهاجرون... أشهر عديدة أتصل كل يوم ولا يجبني أحد.. جننت... وجدت نفسي أبحث عنه... أنظر من زجاج النافذة:

أين أنت؟

لاح لي بين الجموع حتى اقترب... سألته:

أين هم؟

أشار بيده أن رحلوا

سألته عن زوجتي، ألبس بنصره الأيسر خاتمًا وهميًا... سألته عن ابني، أشار بإصبعه إلى السماء.

صرخت: مات؟

بكيت بجنون، ابني.. ابني مات...

أصرخ فيه:
لماذا جعلتني أتركهم.. لماذا دمّرت حياتي....

يشير بإصبعيه أن: اثنين.

أسأله: ماذا تريد مني؟

تلتمع نظرة الشر بعينيه، ويسحب يديه كسكّين على رقبته، ثم يتركني ويتوارى.

أجلس في بكائي، حتى يغلبني النوم...

وها أنا.. عشرون عامًا في عزلتي وصمتي المهيب... أمس فقط، أيقظتني جلبة بالأسفل: أشعر برعب، ألتقط مسدسي وأنزل فورًا، بغرفة المكتب أجد رجلاً ملثّمًا.. ما إن يراني حتى يصرخ:
- لا تقتلني يا بيه... لم أكن أريد إلاّ بعض المال لإطعام أسرتي.

أنظر إليه بعينين خاويتين... هذا ما لم أعمل حسابه... بعد عشرين سنة من الحذَر.. بعد أن مات ابني وتزوجت زوجتي... يخترق عُزلتي لص!

أنظر للنافذة... أجد الرجل على حافتها يبتسم في تشفٍ... ها قد حان الأجل... ماذا ينتظر، لماذا لا يأتي للداخل... ليأتي، ولأرتاح من هذا العذاب... تكفيني كل هذه السنين.

أدعوه:
هيّا، تعالى، ها قد صرنا اثنين.

أشار بإصبعه أن غدًا.

وها قد جاء الغد.. هكذا، تجدونني أنتظره في النافذة... سرحتُ حينًا في خواطري.. بعد هذا العمر، أنا قد أقبل الموت، لكن ليس دون أن أعرف ما جنيت.

تأخر اليوم... وأنا لم يعد عندي صبر..

أسبلتُ دمعة على حالي، طالما لن يبكيني أحد، وفتحت عيني لأجده أمامي على النافذة، ونظرة الغل نارًا بعينيه.

- تعالى، أنا مستعد

ضحك في سخرية، وأشار بإصبعه أن لا، كاد يتوارى، سريعًا رفعت زجاج النافذة، وجذبته بيديّ إلى الداخل، فسقط على الأرض.

- ها أنا، اقتلني

قال ببساطة:
من قال أني أريد قتلك؟

شعرت برأسي ينفجر:
ألم تحرمني أسرتي، وتحبسني هنا بين أربع جدران طوال عشرين سنة؟

بل أنت من فعل.

صرخت بجنون:
- ألم تكن تتوعدني أنك ستقتلني، وكنت تنتظر أن أكون في مجموعة من اثنين؟
- وهل هناك شيء اسمه مجموعة من اثنين؟ ما درسته في المدرسة أن الاثنين مثنّى وليست جمعًا.
- ألم تكن تنتظر آخرًا يخترق عُزلتي، وجاءتك الفرصة مع دخول اللص؟
- أنا لم أكن أنتظر لصًا، لو كنتُ أبحثُ عن ثانٍ أظهر معه لكان عِندي كُثُر يمكنني إحضارهم في أي وقت.

ثم أشار إلى يمينه، فتجسّد شبح مُحرّق بشدة، وبعينه نظرة سخط:
- ألم تحرقه وتحرق شركته وتشوّه سمعتها بالسوق حتى تحصل على لقب صاحب أكبر شركة محمول؟

اعتصر الخوف قلبي.

أشار إلى شماله، فتجسّد شبح عليل يقطر فمه دمًا:
- ألم تتركه يموت مرضًا بعدما هربت إلى عُزلتك وأخذت معك كل مليم كنت حققته من عملك؟

ارتجف قلبي:
- ابني!

قال بِغِلّ:
- لو كنت أنوي قتلك ما كنت أنتظر طقوسًا وهمية: أن نكون فرادى أو جماعات، لو أردت روحك لأخذتها مباشرة، لكني أردت أن أعذّبك في كل لحظة، أن أدمّر حياتك في الوقت الذي تظن فيه أنك نجحت، كل نجاحاتك هذه سلبتها مني، ولو كنتُ أنا على وجه الأرض، ما كنت أنت الأول على رفاقك أو أفضل مهندس.


تهاويت على الكرسي:
- من أنت؟

نظر إليّ بتحدٍ:
- ألا تعرفني حقًا؟

ذهب إلى المكتب، أخرج ألبوم صوري.. وضع أمامي صورة حفل زفافي، حين كنت في الثلاثين، أنا وزوجتي وعشرات الوجوه من أصدقائنا، ووجه هذا الرجل القميء، كيف لم ألحظه من قبل.. كان في مثل سني..

وضع لي صورة حفل تخرجي من كلية الهندسة، أنا وحشد من زملائي، ونفس الوجه القميء لكن أصغر سنًّا، كنّا حينها في العشرين.

هو يترصدني منذ زمن إذًا...

رمى أمامي صورة حفل نهاية المرحلة الإبتدائية: أنا و ’ناجي‘ صديقي، وحشد من...

ماذا؟

’ناجي‘ صديقي...

نظرت إليه بذهول:

- ’ناجي‘ صديقي؟
أهو أنت؟

قال لي:
- كنت أعلّمك كيف تتصالح مع العالم، كيف ترقى فوق الضغوط، كنت أقول لك أن هذا ما يميزك ويجعلك ناجحًا، لكنك اخترت الطريق السهل.
يقولون أنه بإمكانك أن تحصل على أعلى بناء إذا اهتممت ببنائك وعلّيته، وبإمكانك أن تحصل على أعلى بناء إذا هدّمت مباني الآخرين. وأنا كنت الوحيد الذي ينافسك على لقب: ’الأوّل‘.

قاطعته:
- ’ناجي‘ صديقي أنت أخطأت الفهم، التدافع هو ما قتلك، داسوك، وأنا حزنت عليك كثيرًا.

استشاط غضبًا:
- لا تكذب عليّ.

هدأ قليلاً:
- لا أحد يكذب على الموتى يا صديقي.
يومها، مددتُ إليك يدي أساعدك أن تحصل على مكانٍ وسط الجمع، لم أطمئن إلاّ حين تمكنتَ من مكانك. نظرت إليك أدعمك بابتسامتي أن تهدأ وتتشبث بي، فإذا بوجهك تعبير من يجمع كل طاقته لأمر جلل، فجأة وجدت كلتي يديك فوق رأسي تدفعاني لأسفل، قوة عجيبة تملكتك، تضغط وتضغط حتى سقطتُ تحت الأقدام.. فدستني وتابعت.

أرتجف، أبكي:
- اقتلني، وأرحني

التمعت عيونه:
- ولماذا أقتلك وحدي، أنا لستُ أنانيًا مثلك.

أشار لهم أن تقدموا، أمسك صاحب الشركة بذراعي، وأمسك ابني بذراعي الأخرى، وأمسك ’ناجي‘ صديقي بساقي.. رفعوني إلى وضع أفقي، ثم جرى كل منهم في اتجاهٍ مُختلِف.

الرهان




حكاية (رهف)

أنا عندي جارة واحدة هي (أميمة).. وهي من النوع البارد اللا مبالي الذي إن أخبرته أن برج التجارة سقط أو القيامة قامت لما طرف له جفن، ودون ذلك، أنا أحبها فعلاً.

ونظرًا للظروف التي أمر بها أجد نفسي مضطرة للجوء إليها، فزوجي يعمل بالليل، وقد أوصاني الليلة قبل أن يخرج أن أغلق الباب بالمفتاح ولا أفتح لأحد، مكررًا تشبيهه الذي حفظته: تذكري أن الذئب حين طرق على باب العنزات قال:

رددت معه: "أنا أمكم يا أولاد!" قلت له: لا تخف، لن أفتح لأحد. استدركت باسمة: بديهي يا عزيزي واطسون

كنت أحاول أن أخفي قلقي عنه، فلم يكن بيده أن عمله مسائي.. وقفت أمام الباب أودعه إذ يركب سيارته ويغادر، ثم عدت إلى الداخل وكدت أغلق الباب حين ظهرت قطة سوداء تموء ذلك المواء الضعيف الذي يقطّع القلب وكادت تدلف من فرجة الباب لكني دفعتها بساقي برفق أمنعها من الدخول، وأغلقت الباب: فمن المعروف أن القطط شياطين متجسدة.

أعددت لنفسي فنجانًا من القهوة الساخنة وجلست أتصل بجارتي (أميمة). وإذ أرفع السمّاعة دوت الطرقات على الباب. نظرت إلى الساعة: كانت السابعة مساءً. تهيبت: من قد يأتي في هذا الوقت من الليل؟

أطرقت السمع من خلف الباب وتساءلت: من؟
جاءني الصوت الملول واثق النبرات: ’زبالة‘ يا مدام

دخل الشك قلبي، فنحن لم نتعامل مع جامع قمامة منذ انتقلنا إلى هنا. لم افكر مرتين: شكرًا ليس عندنا

وأصخيت لوقع الأقدام إذ تغادر. وأسرعت أتصل بـ (أميمة):
- الحقيني يا (أميمة)! لقد جاءني رجل يقول أنه جامع القمامة، وقد خشيت أن أفتح له، فهذه أول مرة أتعامل معه
- معقول لم تتعاملي مع جامع قمامة؟! وكيف تتخلصين من قمامتك إذًا؟
- يأخذها زوجي في سيارته وينقلها إلى المقلب العملاق في الشارع الرئيسي
- هذه الوسوسة مُبالغ فيها يا (رهف)، حاولي أن تتخلي عنها
- لا أستطيع، أنا خائفة جدًا، أخشى أن يعود هذا الرجـ...

سقطت السماعة من يدي وانتفضت إذ سمعت طرقات الباب من جديد، أمسكت بالسمّاعة وقلت لـ (رهف):
- يطرق من جديد
- امنحيه القمامة بشكل طبيعي
- لا أستطيع
- إذًا تجاهليه وكفى.

حاولت أن أفعل لكنه كان يطرق بإصرار، وبإيقاع أسرع وأعلى في كل مرة.. في هذه اللحظة زارتني كوابيسي كلها، وتجسدت امامي مشاهد فيلم (Strangers) والنهاية البشعة التي انتهى إليها الأبطال.. رددت من خلف الباب:
- أخبرتك أنه ليس لدينا قمامة

لكن جاءني صوت آخر واهن متقطع النبرات: اعطيني شيئًا لله... أنا لم آكل منذ يومين

هو متسول إذًا.. قلت بعصبية وحزم:
- آسفة، زوجي ليس هنا

ثم شعرت بوخز الضمير
- لحظة يا حاج!

ذهبت إلى الداخل أحضرت بعض النقود، وعدت..

بالتأكيد لن أفتح، فقط مررتها من تحت عقب الباب... وأصغيت لوقع أقدامه إذ يمضي. ثم أمسكت بالسماعة وعدت أحدث (أميمة).


2
حكاية (أميمة)

أنا عندي جارة واحدة هي (رهف).. وهي من النوع المتشكك الحذِر الذي يقلق لأتفه الأسباب ويشعر بالتقصير إذا لم ينقل قلقه إليك، ودون ذلك، أنا أحبها فعلاً.

يمكنني أن أتخيل امرأة موسوسة وحيدة مثل (رهف) إلى أين يمكن أن يقودها خيالها.. ذلك الخيال الذي يجعلني أعاني كل ليلة على الهاتف معها: "لقد سمعت حفيف ورقة شجر".. "سمعت حديثًا بينما الشارع خال".. "سمعت الآذان قبل موعده"

أما الليلة فقد اتصلت بي قبل دقائق وكانت عبارتها المحورية: "سمعت طرقات على الباب"

فيما مضى، كان يمكنني أن أتفرغ لها، حيث ينام زوجي مبكرًا وأبقى ساهرة في ملل، فكانت حكايات (رهف) المذعورة تسليني.. أما الآن، ومنذ الليلة، فأنا أم مسئولة لديها طفل جذّاب رائع الجمال تهيم به عشقًا، وقد أهداني إياه القدر بعدما ظننت أني لن أحصل على طفل أبدًا.

والحكاية ببساطة أني لا أنجب، ولم يخطر على بالي التبني قط، لكني حين سمعت بكاء هذا الطفل الرقيق، وقد وضعه أحدهم على باب الفيلا، تحركت عاطفة الأمومة لدي فجأة، ووجدت أني أخرج فورًا لالتقاطه، وأقرر أني منذ هذه اللحظة أصبحت أمه.

وقبل ساعات، ذهبت إلى زوجي حيث يقرأ حاملة الطفل بين يدي:
- انظر كم رائع..

مرر زوجي يده على شعر الطفل:
- لطيف فعلاً

ثم عاد يطالع كتابه.. الغريب أنه لم يبدِ اندهاشًا عن كيفية حصولي عليه.. تبرعت بالتوضيح:
- أحدهم تركه على بابنا.. شخص بلا قلب ولا رحمة ولا يعرف الرفق.. هل مثل هذا الجمال يُترك؟
- أتنوين الاحتفاظ به؟
- نعم، هذا من سيعوضني عدم قدرتي على الإنجاب.. أريده أن يكون ابني وأن أعني به وأكرس له حياتي

قال زوجي بتهكم:
- ابنك مرة واحدة؟

ثم ضحك وقال:
- لا بأس

لم أفهم سر سخريته، أنا عهدي به متسامح وغير أناني.. ولن يضن عليّ بمثل هذه السعادة.. على أي حال، قد وافق.

كنت على الهاتف مع (رهف)، وقد تركتني لترى من بالباب.. فاستغللت الوقت في إعداد بعض اللبن للطفل، وجلست أطعمه بالملعقة إذ ليس لدي ببرونة.. وقد بدا جائعًا جدًا مقبلاً على اللبن، وكان يتذوقه أولاً ثم يمتص القطرات العالقة بلسانه في نهم.

ثم عدت أمسك السمّاعة وأسأل (رهف):
- هاه.. هل غادر الطارق؟
- نعم، نعم يا (أميمة)، لكن أنا مذعورة جدًا.. هذه المصادفات غير طبيعية
- أنا لا أرى شيئًا غير طبيعي، لكن مادمتِ مذعورة هكذا لماذا لا تأتي تبقين معي حتى يعود زوجك.. أنا زوجي سينام بعد قليل ولنسهر نحن معًا
- أنا أتمنى هذا فعلاً لكن أخشى أن أخطو للخارج فأجد هذا الذي كان يريد الدخول منتظرني
- إذًا اتصلي بزوجك ليعود بأسرع وقت.. أنا أكره أن أقول هذا لكن العمل الليلي لا يناسبك
- يبدو أنه ليس امامي حل آخر.. سأحدثه.


3
تتمة حكاية (رهف)

حدثت زوجي، وقد حاول الإعتذار بأنه لن يستطيع ترك العمل قبل موعده، رجوته أن يفعل فأكد لي أنه لا يستطيع.. هنا لم أجد بدًا من الحزم، فأعلنت له: إن لم تأتِ حالاً فلتعلم أني سأطلب الطلاق، وأغلقت الخط فورًا.. وهي استراتيجية مُجرّبة ولا تخيب.. إذا استثنينا المرات التي حصلت فيها على سبة أو صفعة أو كاد ينطق الطلاق..

على أي حال كان زوجي هنا بعد ساعة واحدة وفي زمن قياسي.. وحين دق على الباب سألت بحذر:
- من؟

جاءني صوته الحنون من خلف الباب:
- هذا أنا يا (رهف)، افتحي

فتحت لزوجي وضممته بقوة.. ثم بدأت في البكاء:
- الحمدلله أنك عدت، أنت لا تعرف ماذا حدث لي في غيابك

بدأ في تهدئتي وإن لم يسأل بجدية عمّا حدث، فالمحيطون بي يعتادون أن يستخفوا بدواعي قلقي.. فكم من مرة صرخت أن هناك متسلل ليتضح أنه فأر، أو أني رأيت الشيطان ليتضح أنه كابوس.. لهذا أنا أتفهم تصرفهم. كل ما يهمني: أن زوجي معي الآن.

سألته عمّا يشتهي على العشاء.. وكانت شهيته مفتوحة بالفعل إذ طلب طعامًا دسمًا.. وبعد أن أنهى طعامه ضم ساقيه إلى صدره ونام على الأريكة..

قد بدا مجهدًا جدًا، وقد أيقظته بصعوبة للصعود والنوم بالأعلى. وقد نظرت إليه إذ يتمدد على الفراش: لكم عظيم أن تحظى بزوج يوقف الأوغاد الذين يطرقون على بابك طوال الليل! فبمجرد أن عاد زوجي توقفت الطرقات. وقد أغمضت عيني ونمت ملء جفوني.

وذلك قبل أن أصحو فزعة على صوت طرقات.. كان نور النهار يتسرب من النافذة، نظرت إلى زوجي: كان نائمًا وقد تكور على نفسه.. ارتديت الروب ونزلت على عجل أرى من بالباب:
- من؟
- هذا أنا يا (رهف)، افتحي

تراجعت خطوة للوراء.. كان صوت زوجي.. تساءلت بصوت مبحوح:
- أنت من؟
- أنا (فتحي) زوجك، ألا تعرفيني؟

تذكرت تحذير زوجي لي من أن يخدعني الذئب.. صرخت، وقلت له بعلو الصوت:
- حين طرق الذئب باب العنزات قال: "أنا أمكم يا أولاد".. اذهب.. أنا لست عنزة ساذجة.. لن أفتح لك..

للحظة لم أسمع شيئًا، ثم سمعت صليلاً وأدركت أن المفتاح يدور في الثقب الآن.. وفي اللحظة التالية وجدت (فتحي) أمامي!

صرخت، كيف يمكن أن يحدث هذا، ومن ذاك الذي بالأعلى إذًا، كان يقترب مني، وكنت أجري منه إلى الأعلى، وأصرخ بأعلى صوتي منادية زوجي النائم.. في الحقيقة لم أعد أدري أيهما زوجي

حين صعدت، بدا (فتحي) كأنه تيقظ للتو.. وإن لم يبد انفعالاً ما لرؤية شبيهه.. صرخ زوجي الذي كان يطاردني:
- (رهف)! ما بكِ؟ لماذا تجرين مني؟

لم أجبه، فقط أشرت إلى (فتحي) الراقد في الفراش، فنظر له القادم بحقد:
- وما هذا أيضًا الذي تنيمينه في فراشي؟

ثم ذهب إليه ليشتبك معه.. هنا أطلق (فتحي) الأول صرخة مريعة، وفي لحظة مزّق وجه زوجي ثم قفز من الشباك.


4
تتمة حكاية (أميمة)

بدأت أفهم أن (صبري) زوجي لم يحب الطفل، وإن كنت أجهل السبب.. ربما هي الغيرة من اهتمامي الشديد به.

فكّرت أنه مع الوقت سيعتاد هذا.. وحين أخبرني أنه سينام تمنيت له ليلة طيبة، وظللت ساهرة جوار ابني.. أفكر أي الأسماء أطلقها عليه... أريد أن أسمه: (فائز).. (فوّاز).. شيئًا كهذا.

وحين غلبني النعاس حملته وصعدت، ربما كان خطأ أن أنمته جوارنا على الفراش.. لكن ماذا كنت أفعل وأنا ليس عندي سرير طفل بعد..

أقول أنه كان خطأ لأن زوجي إذ يتقلب في الصباح داس الطفل الذي أطلق صرخة مريعة أيقظتني فورًا، ولخوفي الشديد على الطفل صرخت في زوجي:
- ألا تنتبه؟ كدت تدوس الولد

تأجج الغضب في عين (صبري):
- ما الذي تفعلينه؟ أتنيمينه معنا في الفراش؟
- وأين تريدني أن أنيمه؟ في المطبخ؟
- يبدو أنني تساهلت معكِ جدًا.. هذا مكانه: الشارع
- أجننت؟ كيف تقول هذا عن ابني

هنا جن جنون زوجي:
- أتقولين ’ابني‘ ثانية؟ أفيقي.. هذا ليس ابنك
- أعرف أنه ليس ابني وإنما طفل وجدته في الشارع، ومع هذا....

قاطعني زوجي في عنف:
- أنتِ تماديتِ جدًا وقد كنت أتجاوز عن هذا فقط لسعادتك، لكن لو سمعت كلمة ’طفل‘ ثانية سأمزقه لكِ قطعًا.. هذا ليس طفلاً

ثم أمسكه بعنف ورفعه أمام وجهي:
- هذا قط.. مجرد قط..

أطلق الطفل مواء عظيمًا، وخمش ذراعي (صبري) فارتخت قبضته مسقطًا الطفل إلى الأرض فراح يجري على أربع تجاه النافذة، ثم قفز.


5
محادثة (فتحي) و(صبري)

رفع (فتحي) سماعة هاتف مذعورة إلى (صبري):
- آلو.. (صبري)؟ الحقني يا (صبري).. زوجتي جنت تمامًا، تخيل أن أعود في الصباح فلا تريد أن تدخلني لأنها تنيم قطًا في فراشي! بل وتطلق عليه ’فتحي‘!
- لا تظن أن الحال أفضل هنا.. فأنا أيضًا زوجتي أحضرت قطًا من الشارع واسمته ’ابنها‘، و......


6
محادثة القطط

جلست القطط السوداء تتضاحك تحت العربة في الشارع.. نظر القط الزعيم إلى القط الجديد بإعجاب وقال: أحسنت يا (فوزي).. نجحت في أن تخدع ربة المنزل وتجعلها تدخلك بيتها وتبيت ليلة تحت سقفه، وكسبت الرهان. بالرغم من أن تلك المرأة (رهف) كانت متشككة لكنك تمكنت ببراعة من التشكل في هيئة زوجها وخداعها.

ابتسم القط (فوزي) في زهو وقال: تلميذك يا زعيم.. لقد اعتقدت أني انكشفت في البداية حين دفعتني الزوجة (رهف) بقدمها قائلة أن القطط شياطين متجسدة.. وظننت أنه لا فرصة لي.. حتى تذكرت حيلتك التي قمت بها أمامي لتعلمني. وذلك عندما تجسدت في صورة طفل رضيع ليرق قلب صاحبة الفيلا المجاورة (أميمة)، وتدخلك. وقد أدركت أنك بحق الزعيم، فحيلتك انطلت من أول مرة.. أما أنا فاحتجت إلى التجسد في شكل جامع قمامة وشحّاذ وفي النهاية زوجها حتى فتحت لي الباب.. وكل هذا لترضى عني وتقبل انضمامي إلى الشلة يا زعيم.

العدد الأول (العطايا السوداء)




"ابحث معي عن أكثر من تمقت بالعالم، لنهدِه هديّة!"

تمهيد

ترجل من سيارته، ارتكن عليها في انتظار المساعدة. توقفت سيارة أمامه. صرخ بجنون، صرخ: بسم الله الرحمن الرحيم! السيارة تقود نفسها!

انخفض زجاج النافذة.. وقال السائق ضاحكًا:
- هه! ألم تتبينني في العتمة؟

كان سائقها عجوزًا أسود البشرة والشعر والملابس في هذه الليلة السوداء. شعر بالحرج:
- عذرًا.. لقد تعطلت سيارتي، و...
- تعالى سأقلّك إلى حيث تريد.
- لا، أشكرك.. أنا فقط أحتاج إلى إطار.
- آه! آه! بالتأكيد.

ركن العجوز سيارته إلى جانب الطريق، أخرج الأدوات من الحقيبة، وجلس على الأرض جوار سيارته، يحاول تحرير إطارها في صمت..


لوهلة، لم يتبين المسافر ما يفعل العجوز، إذ لم يخطر بباله قط أن هذا ممكن.. صاح به:
- لا! لا! لا أقصد أن تعطيني الإطار الذي تسير به، قصدت لو عندك واحد إضافي.
- سيكون من دواعي سروري أن تأخذ هذا.
- لا أريد أن أفسد سيارتك.
- لا عليك أبدًا أبدًا.

فكّر المسافر: لو أنه مجنون، أو كريم، أو خدوم، فكلها أشياء مرعبة في هذه الحلكة وعلى هذا الطريق المهجور. لكن ما حيلته.. هو بالفعل طريقه طويل ويحتاج إلى الإطار.

انتهى العجوز من فك الإطار، وناوله للمسافر الذي جلس يركّبه شاكرًا العجوز. أخرج العجوز قلمًا وورقة من جيبه وقال:
- هل يمكنك أن تكتب لي كلمة للذكرى؟

تعجب الفتى، لكن من قال أنه لا يدين للعجوز! كتب على ضوء كشاف السيارة:
"جزيل الشكـ

ولكن الورقة طارت وانغرس سن القلم في يده مسببًا ألمًا شديدًا، نظر الشاب إلى العجوز باعتذار لضياع الورقة، لكن العجوز منحه نظرة رضا:
- لا يهم! هذا ممتاز! ممتاز!

وحين انتهى المسافر من تركيب الإطار، وجد أنه مضطر إلى دعوة العجوز لإيصاله إلى وجهته، تلك الدعوة التي لاقت ترحيب العجوز.

في الطريق، أخرج العجوز بطاقة العمل الخاصة به ومنحها للمسافر، وقد توقع من نوعية الورق والطباعة البارزة التي عليها أن للرجل وظيفة مرموقة، كما أن بطاقات العمل السوداء تنم عن ذوق راق. لكن المسافر لم يتبين أحرفًا يقرؤها في الظلام، فاكتفى بوضعها في جيبه.

كان مسكن العجوز على مسافة قريبة: فيلا صغيرة محاطة بعدد قليل جدًا من الفيلات. توقف المسافر عن القيادة وكرر شكره إلى العجوز الذي ترجل ومال يحدّث المسافر من النافذة قائلاً:
- لا مزيد من كلمات الشكر؛ إن أردت شكري حقًا فلتأتي تؤنسني قليلاً في بيتي.

تريّب المسافر:
- أرجو أن تقبل اعتذاري فطريقي لازال طويلاً.
- لن أعطلك أبدًا، فقط أدعوك إلى شراب يدفيء عروقك في هذا البرد.
- هذا لطف زائد منك، ولكن أخشى أني لا أستطيع.
- أرجوك أن تقبل يا بني.. فكّر أنها دقائق فقط ستسعد هذا العجوز.

بدا العجوز شديد الإلحاح، يستخدم الاستمالات العاطفية بإفراط، ربما لأنه لا يملك غيرها، فلا يوجد منطق يؤيد ذهاب الرجل الوحيد إلى بيت العجوز المريب. وطالما لم تنجح الاعتذرات، فقد قرر المسافر أن ينطلق بالسيارة مباشرةً، في حين وقف العجوز يصب اللعنات على رأسه.

ولأن الحظ التعس، كما الموت، ينتقي أصفياءه، فما هي إلا أمتار وانفجر إطار السيارة. توقف المسافر إجباريًا هذه المرة ليجد أنه من جديد في دائرة الفيلات الصغيرة. توقّف العجوز عن السباب فجأة، وبشّ وجهه له بينما يجدد دعوته للشراب الدافيء.

خيارات المسافر محدودة: البقاء في البرد في انتظار سيارة شحيحة جدًا هذه الأيام، وغير مضمونة أيضًا لأنها قد تحمل مريبًا آخر. أو دق أبواب هذه الفيلات طلبًا للمساعدة، وهو الأمر لا يستبعد أن يعرّفه إلي مزيد من المريبين، أو أن يذهب مع المريب الأول.

هكذا فكّر أن المريب الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه، خاصةً وأن العجوز هش وضعيف جدًا، برغم كرشه المتدلي لكنك تعرف فورًا أنه فقط كتلة شحم ليس لها علاقة بالموضوع، كما أنه يتخفى خلف البشاشة والود، وهذا ليس مطمئنًا لكنه يظل أفضل من أن يتخفى خلف سكّين أو بندقية.

سأل المسافرُ العجوز:
- ألديك إطار آخر؟
- نعم، لكن ليس قبل أن ترافقني إلى البيت.
- حسنًا.

هش وبش العجوز، فتح الباب ودعا المسافر للدخول دعوته لسفير أو وزير، منحنيًا، باسطًا يده، ثم متجمدًا هكذا:
- سأحضر الشراب حالاً.

عاد بعد لحظات، مال واضعًا الكوب أمام المسافر، نظرالمسافر إلى السائل الأسود الفوّار في دهشة:
- ما هذا؟
- كولا
- يا له من شراب دافـ...!

ابتلع المسافر كلماته، ليس أغرب ما يبتلعه عن هذا العجوز! غاب العجوز فيما بدا أنه المطبخ. لم يعد المسافر يشعر بالفضل تجاهه، حتى الابتسامة المجاملة أو كلمة الشكر لا تأتي شفاهه؛ وربما هو السُباب يرفع الكُلفة بين الناس فلا تهتم بعدها للمجاملات، وربما أغراه وهن العجوز بالقوة، وودّه بالجفاء، وربما هو فقط يشعر بالـ ’ورطة‘. تجرّع الكولا، وتذكر بطاقة الرجل، فأخرجها من جيبه وقرأ:

"د. (أكرم عطا الله).. جرّاح تجميل"

حقًا!؟ لو أنه مكانه لاهتم بالعمل على نفسه أولاً! أعاد البطاقة لجيب قميصه، نغزه شيء بقوّة جوار القلب إلى حد أن تأوّه بصوت مرتفع... استغرق الألم لحظات قبل أن ينتقل إلى معدته بحدّة أشد إلى الحد الذي جعله يتساءل: ما الذي كان بالشراب؟

عاد العجوز بطبق من التمر الرطب، ولازال مُلحًّا كعادته، قام المسافر غاضبًا:
- يكفي هذا. أين الإطار؟
- فقط اجلس يا بني، وتناول تمرة.
- ولا كلمة أخرى. هات الإطار.

تردد الرجل إذ يبوح:
- الحقيقة أنه ليس لدي إطار هنا.. لكن....

تلفت حوله:
- لدي العديد من الأشياء الأخرى: ما رأيك في هذه الكوفية؟ ضعها على عنقك. هذه الشمسية، ستنفعك بالخارج. خذ تمرة.. هذه السجّادة، ألفها لك؟ خلع قميصه.. خذ ارتده.. خذ تمرة.. خذ التلفاز.. خذ...
- كفى! كفى!

كان يتحدث بسرعة، يتحرك بسرعة، يتلفت حوله، ينظر للساعة ـ التي تقترب من منتصف الليل ـ بين كلمة وأخرى، يعرض أي شيء أسود يصادفه. في هذه اللحظة قرر المسافر أن كرم العجوز زائد حقًا، أنه يخفي سرًا حقًا، يكيد لشيء حقًا، وأن الغباء الحقيقي أن يأخذ شيئًا آخر منه، بمعنى: أن هذا هو الغباء الإضافي؛ لأن الغباء الحقيقي أنه هنا أصلاً.

فتح الباب ليخرج، فتعلّق العجوز بساقه وقال بخشوع:
- أرجوك.. الوقت ينفذ.. خذ تمرة.

دفعه بعنف فسقط أرضًا، غادر المسافر المنزل ومشى باتجاه الطريق في حين تدوّي طرقات محمومة من خلفه، التفت فرأى العجوز يطرق أبواب الفيلات المحيطة: يدّق بجنون كل الأبواب، وبيديه العشرات من البالونات السوداء.. يصرخ:
- بالونات للأطفال.. بالونات بالمجّان.. خذوا أربعة عليهم واحدة هدية... خذوا واحدة عليها أربعة هدية.. خذوا كل البالونات.. خذوا أي البالونات...

في حين تتهيب كل الأبواب وتُغلق في وجهه، رأى العجوز يسقط منهكًا في مركز دائرة الفيلات، ثم رأى الهول يحلّق فوقه.

فرك المسافر عينيه ظانًا أن المشكلة بهما، لو أن الأمر بهذه البساطة!

تسمّر في موضعه. تفحّص في ذلك الشيء المهول فإذا به رجل مهيب في رداء أسود ينزل من فوق رأس العجوز إلى الأرض أمامه، ثم يقول:
- تنقضي مهلتك انقضاء، ولم تجد لروحك افتداء.

كان له صوت يرج الأكوان ويرتج داخل ذاته، ثم يبقى في خيالك لا تدري كيف تصفه. بسط الرجل الأسود المهيب يده باتجاه العجوز الذي يحاول التملص:
- لا!! أرجوك، امنحني فرصة أخرى.. أرجوك، لا... لااا!!!

تمكن الأسود من رأس العجوز، وتابع كألّم يسمعه:
- لتذوبي يا روحه النقية، ببئر العذابات الأبدية.

أراد المسافر أن يركض كفأر مذعور، ولكنه كان يقف بلا ساقين، يحتمي بلا شيء، لم تكن تنقصه أبدًا صرخات العجوز المدوّية في هذا الفضاء، والمعبرة بدقة شديدة عن هذه الـ ’العذابات الأبدية‘! أمّا آخر ما كان ينقصه فعلاً، أن تتجه نظرات الرجل الأسود إليه، ثم تلتمع بالشر إذ يقول:
- أماّ أنت!

ذابت لا-ساقاه، سقط، وغالبًا بلل سرواله:
- فلم يحن موعدك يا أنت، فما تلقيت غير أربعٍ فقط.

أخرج أوراقًا من لا-مكان وقرأ:
- بطاقة وإطار سيارة، قلم ومياه فوّارة.
لونها السواد مجموعها أربعة، خامسها العذاب لا سادس لها.
نمهلك الأيام لا أكثر من ثلاث، قوانيننا السوداء ليس عنها مناص
فاقبل خمسًا آخرين في رضا، لن نسألك عن أربع ما انقضى
فإن أتممت الخمس العطايا، نحصد روحك كما حصد المنايا
وإن تلكأت عن الخامسة، لا تنفعنا روحك الناقصة
نذيبها كالأرواح الشقية، ببئر العذابات الأبدية

صرخ فورًا:
- لا!! بئر العذابات الأبدية لا!!!

ثم أدارها في رأسه، فاستدرك:
- ولا تحصدوا روحي كذلك.

قال الرجل كعادته في البناء على كلامه السابق:
- ومن قبل الغياب والترحال، أذنت لك أن تسألني سؤال.

فكّر المسافر، صرخ:
- أرجوك، ساعدني، وأكون لك شاكرًا مدى الحياة، كأن العجوز أراد أن ينقذ نفسه بمنحي تلك الأشياء، فكيف يمكنني أن أنقذ نفسي مثله؟
- عطاياك أنت بها حقيق، أكثر من أي عابر بالطريق
وإن أردت منحتها لغيرك، فيكون من فيض كرمك
انتقي بين النفوس نفس، تهبها من العطايا خمس
سوداء بـ ’ماء الوهب‘ ممسوسة، ودماءك قِطَرًا عليها مدسوسة.
وليس أن تمنحها فتنجو أنت، لكن ليستخدمها وهذا شرط.
تصبح لنا روحه خالصة، بنهاية الليلة الثالثة.

ثم قذف إليه بقنينة، وقال:
- ومن يسأل عن ’ماء الوهب‘، تحق له قبل الطلب.

ثم دوّن في أوراقه:
- الاثنين منتصف الليلة، ـ بتوقيتكم ـ تنتهي المهلة.

ثم عاد فاختفى من حيث أتى. صرخ الرجل في هيستيريا:
- انتظر.. لا تتركني هكذا.. لا تغادر قبل أن تمنحني ما سينجيني.. أنت قلت أضع عليها ماء الوهب ودمائي، وأعطيتني ماء الوهب فقط، فمن أين أحصل على دمائي، من أين أحصل على دمائي!!!؟

ثم راح في إغماءة.

لأني الأكرم؛
أمنحك خمس عطايا مقابل روحك.
ولو كنتَ الأكرم،
فلتمنحني خمس أرواح مقابل عطيتي!


شديدة البياض ومنتفخة



(المشهد الأول عن واقعة حقيقية)

انظروا إليها بينما تغط في النوم، أليست ملاكًا صغيرًا؟ حسنًا، لنقل أنه ملاك نحيل أسمر ولكنه خفيف الظل.

أضمم الغطاء عليها وأقوم، لكنها تتمسك بيدي:
- أنا لسه منمتش، متسيبينيش غير لما أروح في النوم

أعود لأجلس على طرف فراشها وأحكي الحكايات، ثم أتسلل على أطراف أصابعي إلى المطبخ، أغسل الصحون وأضعها على الحوض برفق، أستشعر وقع خطوات من خلفي، أسمعها تقول:
- سيبتيني ليه يا ماما؟

أدير رأسي إليها بلمحة عابرة، تطل برأسها من خلف باب المطبخ، وتتمسك بحوافه بيديها وتؤرجحه، أقول بينما أتابع عملي:
- هخلص بسرعة وأجيلك يا حبيبتي
تقول بدلال:
- لأ، دلوقتي

أبتسم، أغسل يدي وألتفت إليها، تختبيء برأسها خلف الباب في حين لا تزال أناملها متمسكة به.. تجحظ عيني إذ تحدّق في اليدين شديدي البياض والمنتفختين، تغزو جسدي القشعريرة، إنهما ليستا يدا ابنتي.
~

ساقاي ترتعشان، رأسها مخفية، أمن الآمن أن أظل بالمطبخ؟ زوجي تأخر، آخر ما آمل فيه لحظة مواجهة. ماذا سأفعل حين تُخرِج لي رأسها، ألا يمكن أن تكون ابنتي بخطر؟ وغد لا ينفع في شيء مما ينفع فيه الأزواج! كيف سأعبر بجوار من لا أريد أن أرى وجهها.. ابنتي تصرخ، أدفع الباب وأتجه إليها في ثانية.

أقف على بابها بلا قدمين، تبادرني بصوت باكٍ:
- كابوس يا ماما! كابوس فظيع!

أتقدم إليها، أرجع فأغلق الباب وأسنده بكرسي، ثم أعود فأتقدم. أصعد إلى الفراش وآخذها بين ذراعي:
- متخافيش يا حبيبتي، ماما معاكي

يتحرك مقبض الباب ببطء، يتحرك بعنف، يرتج بشدة، يعلو بكاء ابنتي، وربما بكائي أيضًا، أصرخ:
- إبعدي من هنا.. إنتي عايزة منّا إيه؟؟؟ سيبينا..

تتوقف المحاولات، أتوقف عن البكاء وأرهف السمع، دقائق قبل أن يرتج الشبّاك، تتشبث ابنتي بي:
- أنا خايفة يا ماما

يدوي بأذني رنينًا متواصلاً من بكاء ابنتي.. لا أتمالك أعصابي، يعلو نحيبي:
- كفاية أرجوكي! عشان خاطر بنتي... إحنا معملنالكيش حاجة

تتوقف، أتطلع حولي في حذر، تصرخ ابنتي:
- الحقيني يا ماما

أرمق يدًا شديدة البياض ومنتفخة تمتد من أسفل الفراش تقبض على ساق ابنتي، أستجمع كل قوتي وألكمها لكمة عنيفة:
- متلمسيش بنتي!

تتسلل إلى أسفل الفراش، تحاوطني ابنتي بذراعيها بشدة، وتخفي وجهها بصدري، أمسد شعرها بيدي، بينما أساعدها على القيام:
- متخافيش يا حبيتي.. إحنا هنخرج من هنا
- مين قالك إننا هنخرج؟

تدفن رأسها أكثر بصدري، وتعتصر أضلعي بين ذراعيها البيضاوين الممتلئين، وبرغم الألم، أصرخ من الذهول، أدفعها عني بكل استطاعتي وأقذف بها إلى بعيد، تسقط إلى الأرض فأعبرها وأركض إلى الخارج.

أقطع السلالم للأسفل سلمتين أو ثلاثة أو كلهم دفعة واحدة.. أصطدم بأحدهم فأصرخ لكني إذ أنظر في وجهه أحمد الله أنه جاء.. أصرخ:
- مسكون! في شبح.. جنّيّة، مش عارفة! بنتنا.. البنت فوق

لا يفهم شيئًا لكنه يتركني ويركض إلى أعلى، أتبعه بحذر، يدلف إلى غرفة الطفلة خطوتين ثم يتوقف، ينظر في ذعر إلى ابنتنا الملقاة على الأرض في سكون فيما يتدفق الدم من رأسها
~

نجلس في المنزل نستقبل العزاء، لا أرغب بالكلام، أكتفي بهزة رأس على فترات متباعدة، تميل عليّ إحدى الجارات:
- كانت زي الملاك، ربنا يصبرك يا حبيبتي، لكن ماتت إزاي؟

لا أجيب، أرفع عيني إلى زوجي، يسعل قليلاً بينما يقول:
- يظهر إنها اتقلّبت وهي نايمة وقعت من على السرير..

يتدخل جار عجوز:
- دنيا عجيبة يا ولاد.. تصدّق إن كان فيه ساكن قبلكم ماتت بنته بنفس الطريقة..

يشرد ببصره:
- كانت حتة بنت! بيضا ومليانة وزي القمر..

يجتذب انتباهي كله، أنطق لأول مرة:
- اتقتلت؟

يجيب ببساطة:
- لأ، وقعت من على السرير!

أودّع المعزيين وأحزم حقائبي بينما أقول لزوجي:
- لا يمكن أعيش هنا، بيع البيت!
~

تقف الساكنة الجديدة تغسل الصحون بالمطبخ، في حين تتمسك يدا ابنتها بالباب وتخفي وجهها:
- سيبتيني ليه يا ماما؟

لا يقلقها هذا السؤال، ولكن السؤال الحقيقي: لمن هاتين اليدين السمراوين النحيلتين؟

البثرة

هل ترى تلك المرأة الحدباء التي تهيم خلف الحشرات؟
هل تصدّق أنها كانت منذ بضعة أيام فقط: أجمل بنات القرية؟
لو أنك من قريتنا فأنت تعرف جيدًا (آسيا)، ولو لست منها فأرجوك ألا تتهمني بالمبالغة، أنت في حياتك لن ترى أجمل منها، حتى تلك البثرة على وجنتها يمكنك ببساطة مريعة أن تتغاضى عنها، إن صخرة على سطح القمر لن تمنعك أن تصفه بأنه ’القمر‘.
وهي تعلم هذا، ولهذا لم تحاول أبدًا إزالة البثرة، إنها تلك الثنائية الشهيرة: ’جميلة، ومغرورة‘.
لكنها لم تعلم أن المثلث كاملاً هو: ’جميلة، ومغرورة، وتعسة الحظ إلى أقصى مدى‘، يا لأختي المسكينة! أنا أختها وأعرف عنها كل شيء، وسأحكي لك..
.
.
.
في الصباح كنّا نتجول حول البحيرة.. داعبَت خصلات شعرها وقالت لي:
- وهل تصدّقين أنني أنا قد أعشق فتىً، من كان!
- إن لم تحبيه فاتركيه ولا تعذّبيه وتسخري منه وسط الجميع

تضحك وتقول:
- يجب أن يفرح يا (فاطمة)، كم فتى بالقرية منحته بعضًا من اهتمامي لأسخر منه؟

يمر بنا أحد الشباب فيبدأ بمعاكستها:
- يا إله السماء، هل أرسلتَ إلهة الجمال إلى الأرض؟

تلتفت إليه ولم تفارقها الضحكة:
- وأرسل معها إله السماجة أيضًا.

يلفت انتباهنا مجذوب القرية، إنه رجل عجوز أحدب في ملابس رثة، وله نبرة قوية ومزعجة جدًا إذ يردد:
- المقسوم... المقسوم... المقسوم... المقسوم

ثم يقترب منّا باسطًا إلينا كفًّا فارغة. تميل (آسيا) لتتفحص وجه المجذوب فتتجعد عضلات وجهها في اشمئزاز:
- يا إلهي المجيد! هل يُعقل أن الذي خلقني قد خلقك؟

يمتعض وجه المجذوب ويشيح عنّا قليلاً بينما يقول بنبرة منخفضة:
- المقسوم.

تستدرك (آسيا):
- ثم ما هذا الصوت؟ هل ابتلعتَ ضفدعًا أم....

تنظر لي وتضحك:
- أم أنك تربيهم في هذا الإتْب على ظهرك!

تلتمع نظرة غضب بعين العجوز، يدير وجهه إليها ويمد إصبعًا نحو البثرة على وجنتها حتى يلمسها فيقول بنبرة رهيبة:
- المقسوم.

تنتفض (آسيا) في مكانها للحظة كأنما تكهربت، يُنزِل العجوز يده ويمضي إلى بعيد مرددًا كلمته الوحيدة، بينما تحاول (آسيا) أن تنفض نظرته عنها، تفتعل ضحكة مرتبكة:
- أيًا كان!

ثم تأخذني من ذراعي، إلى البيت.
~

تقف (آسيا) أمام مرآتها:
- مرآتي يا مرآتي.. من أحلى مني بالـ....؟

لسنوات اعتادت أن تقف أمام المرآة تقول ذات الكلمات، ولا يشتت انتباهها أبدًا وجود البثرة على وجهها، فلماذا اليوم بالذات لا تستطيع أن تتم الجملة؟

تلتفت إليّ بحزم:
- لنذهب إلى الحكيم.

أصطحبها إلى هناك. يتمعن حكيم القرية في النظر إلى وجنتها وأظنه يسرح حينًا في جمالها ثم يقول:
- أنا لا أرى حاجة لإزالتها
- أنت تقوم بعملك وكفى.

تصدمه عبارتها، ينتقل إلى خزانته فيجلب بعضًا من الأعشاب المطحونة، ويخبرها أن تضعها بانتظام كل يوم.
~

تنظر (آسيا) إلى البثرة التي تتضخم يومًا بعد يوم، وتقول ببساطة:
- إنه حمار!

تتلفح بوشاحها وتقول:
- أنا سأذهب إلى الشيخ (جِرجار).. يقولون أن سره باتع.

يتملكني القلق:
- لكن.. نحن لا نريد أن نذهب إلى هذه الأماكن يا (آسيا)
- لو خائفة، ابقِ أنتِ.

ثم تتركني وتتقدم، ألتقط ملاءتي وأسرع خلفها.

تخنقني رائحة البخور المحترق، يضع الشيخ (جرجار) مزيدًا منه في النار ويطلب منها مزج بعض الأعشاب مع ساق ضفدع مطحونة واستخدامها للدهان، تهم (آسيا) أن تعترض:
- ولكن...
- لا كلام قبل ساق الضفدع المطحونة.


تنحني (آسيا) حول حواف البحيرة محاولة الإمساك بأحدهم، لكنهم دائمو القفز، وحين تنجح أخيرًا في القبض على ضفدع يفرز سائلاً لزجًا فوق يدها فلا يفارق الاشمئزاز وجهها حتى البيت.

يصدر الضفدع نقيقًا يفوق حجمه الصغير بمراحل ويكاد يوقظ الأموات وهي لا تريد إيقاظ الجيران، تود أن تضع يدها على فمه تغلقه لكن الغريب أنه مغلق أصلاً، فمن أين يُصدِر هذا الصوت؟

تثبته بيديها إلى المائدة، وتخبرني أن أسرع بإحضار السكين، ثم تطلب مني أن أقيّده بدلاً عنها، يرتفع نقيق الضفدع إلى أقصى حد، وفي أقل من لحظة: تُسقِط السكين على ساقه فتفصلها.

أشهق وأجذب يدي لأخفي فمي، يكف الضفدع عن النقيق، ينتفض على ساق واحدة فيختل توازنه ويسقط، ينظر إلى ساقه الممدة على طاولتنا نظرة طويلة قبل أن يزحف على ثلاث صانعًا خيطًا من دمٍ إلى الباب.

تجذب (آسيا) أطراف جلد الساق إلى الخارج، ثم تلقي بالساق المسلوخة على المائدة وتذهب إلى المطبخ، أنظر بذعر إلى الساق المفترض أنها ميتة، لكنها لا تكف عن الانتفاض، تعود (آسيا) بيد الهاون، أقول بينما ترفع الهاون وتهوي به على الساق:
- ألم يكن يُفترَض أن تقتلي الضفدع أولاً، بدلاً عن تعذيبه؟
~

تقف (آسيا) أمام المرآة، تأخذ مسحة من معجون ساق الضفدع على إصبعها وتدهن بها البثرة في ابتهاج:
- مرآتي يا مرآتي، هل أعود أجمل امرأة بالكون؟

ثم تلتفت لي، تتسع عيني بينما أرمق خدها ينتفخ كالبالون، تنظر بذعر إلى عيني المتسعة فتعود تنظر للمرآة، وتصرخ:
- الحقيني يا (فاطمة)، ما الذي يحدث لي؟!
- لابد أنه تورّم، يبدو أن لديك حساسية من ساق الضفدع هذه.

آخذها إلى الحوض:
- يجب أن نغسل هذا الدهان بسرعة

تميل رأسها إلى جانب الخد الآخر:
- لكنه ثقيل يا (فاطمة)، هذا التورّم لا يمكنني حمله... إلى من أذهب بعد هذا؟

أوسدها فراشها:
- نامي الآن، والصباح رباح.
~

في الصباح كانت غرفة (آسيا) تعج بالضجيج، شيئًا مثل: ألف ضفدع ينق، لكن من أين يأتي هذا الصوت؟

أفتش جيدًا تحت الفراش وفي الخزانات، ثم تتملك الفكرة مني فأقترب ببطء من الفراش، وفي لحظة أزيح الغطاء عن (آسيا)، فيعلو الصوت دفعة واحدة، ولازلتُ لا أرى ضفادع.

تفتح (آسيا) عينها فتنظر لي بشكٍ، وأنظر لها بشكٍ، تضيّق عينها للحظة وترهف السمع قائلة:
- هل تسمعين ما أسمعه يا (فاطمة)؟

تحك جسدها بالفراش عدة مرات، ثم تعتدل جالسة:
- لا أدري لم لا يريحني هذا الفراش!

ولكن من قال أن المشكلة بالفراش؟ المشكلة أنه لا يمكن لأحد أن يرتاح في نومته على ظهره إن كان ظهره محدّبًا. تجلس (آسيا) على حافة الفراش، رأسها لأسفل وإلى جانب:
- أشعر ثقلاً على ظهري يا (فاطمة)

تحاول أن ترفع رأسها وتدفع بكتفها للأمام علّها ترى، تفشل لكنها تفلح في معرفة ما هنالك، تنظر إليّ بذعر بينما تصرخ وتلطم خديها:
- هل صار لي إتبْا يا (فاطمة)... هل صار لي إتبْا؟!!

ابتلعت الكلمة في حلقي.. كيف يمكن أن أقول: نعم يا (آسيا)، وتسكنه الضفادع أيضًا.

أميل عليها لتهدئتها، في حين تقف ذبابة على وجهي، وفي أقل من ثانية يمتد لسانًا من خدّها يلتقط الذبابة ويعود للداخل.

في الأيام التالية صار معتادًا أن ترى امرأة حدباء تخفي نصف وجهها بالوشاح وتهيم في أرجاء القرية منحنيةً نحو الأركان، ومصدّرةً خدها المتضخم لأي حشرة عابرة. حينها لتعرف أنها أختي (آسيا).

الثلاثاء، 19 مارس 2013

ماذا عن الايتام ؟

بسم الله
وبسم الامة
وبسم الامة العربية
وباسم الامة الاسلامية
بسم الشعب
اما بعد
ايهتا الامة الاسلامية الي متي نظل في هذه الغفلة
الي متي سنظل في هذه الجريمة البشعة
الي متي سيظل هذا الطفل البرئ الذي لاحول ولاقوة له الا الله!!
الي متي؟؟
اخواني واخواتي بالاسلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اما بعد
نحن يا اخواني واخواتي نعيش بهذه الدنيا في نعيم والحمدلله نأكل ثم نشرب ثم ننام ونصحو ثم نذهب الي العمال والي الاعمامل والاشغال والدراسة وغيرها
ولكن قد نسينا جذءا مهما بهذه 
الدنيا
نسينا ان الله عز وجل
سياتي يوما ما ويسألنا عن هؤلاء الطفال
الذين لاحول  لهم ولا قوة الا بالله
هؤلاء لا يريدون الاموال 
ولا اي شئ من هذا القبيل
يريدون الامان
يريدون الحنان 
يريدون الرعاية والتربية
تخيل معي اخي
كم هو مصروفك باليوم
اهو 10 ج
ام 15 ام 20ج
فلنفترض 10
اخصم منها 1ج
واشتري بها حلاوة او لبان
او اي شئ
بدلا من ان تشتري بها علبة سجائر تضر بها نفسك 
او تضر بها الاخرين
يوميا خصص لهم جنيه واحد من اموالك
الا تفعل لهم الكثير
بلا..
تفعل 
تخيل معي اخي الكريم
حينما تاتي لهاذا الطفل
وتقول له تعال ياطفلي
باحبيبي انت
خذ هذه الحلاوة وكلها حبيبة
وتحضنه بكل امن وحنان
تخيل مدي فرحتة بك وبالذي اتيت به
تخيل انك ترسم الابتسامة علي وجه طفل واحد فقط
فماذا يفعل لك المولى عز وجل
هيا اخي
هيا اختي
قوموا واستيقظو من هذه الغفلة
فلنتصور اننا مكانهم
فماذا كنا سنفعل




محمود بني